الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
لملاقاة الدلاة المذكورين وكبيرهم يقال له ابن كور عبد الله. وفي يوم الجمعة دخل الدلاة المذكورون وصحبتهم الكتخدا وصالح آغاقوش وكاشف الشرقية وكاشف القليوبية وطوائف العسكر ومعهم نقاقير الطبول وهم نحو الألفين وخمسمائة أجناس مختلفة وأشكال مجتمعة فذهبوا إلى ناحية مصر القديمة ونواحي الآثار وانقضت السنة وما حصل بها من الغلاء وتتابع المظالم والفرد على البلاد وإحداث الباشا له مرتبات وشهريات على جميع البلاد والقبض على أفراد الناس بأدنى شبهة وطلب الأموال منهم وحبسهم واشتد الضنك في آخر السنة وعدم القمح والفول والشعير وغلا ثمن كل شيء ولولا اللطف على الخلائق بوجود الذرة حتى لم يبق بالرقع والعرصات سواه واستمرت سواحل الغلال خالية من الغلة هذا العام من العام الماضي وبطول هذه السنة امتنع الوارد من الجهة القبلية ومع ذلك اللطف حاصل من المولى جل شأنه ولم يقع قحط ولا موت من الجوع كما رأينا في العلوات السابقة من عدم الخبز في الأسواق وخطف أطباق العيش والكعك وأكل القشور وما يتساقط من قشور الخضروات وغير ذلك. وأما من مات في هذه السنة من الأعيان فقد مات العمدة العلامة والتحرير الفهامة الفقيه النبيه الأصولي النحوي المنطقي الشيخ موسى السرسي الشافعي أصله من سرس الليانة بالمنوفية وحضر إلى الأزهر ولازم الاستفادة وحضور الأشياخ من الطبقة الثانية كالشيخ عطية الأجهوري والشيخ عيسى البراوي والشيخ محمد الفرماوي وغيرهم وتمهروا نجب في المعقولات والمنقولات وإقراء الدروس وأفاد الطلبة وانطوى إلى الشيخ حسن الكفراوي مدة ورافقه في الإفتاء والقاضاي ثم إلى شيخنا الشيخ أحمد العروسي وصار من خاصة ملازميه وتخلق بأخلاقه وألزم أولاده بحضور دروسه المعقولية وغيرها دون غيره لحس إلقائه وجودة تفهيمه وتقريره واشتهر ذكره وراش جناحه وراج أمره بانتسابه للشيخ المذكور واشترى أملاكًا واقتنى عقارًا بمصر وببلده سرس ومنوف ومزارع وطواحين ومعاصر واشترى دار نفيسة بدرب عبد الحق بالأزبكية وعدد الأزواج واشترى الجواري والعبيد والحبشيات الحسان وكان حلو المفاكهة حسن المعاشرة عذب الكلام مهذب النفس جميل الأخلاق ودودًا قليل الادعاء محبًا لإخوانه مستحضرًا للفروع الفقهية وكان يكتب على غالب الفتاوى عن لسان الشيخ العروسي ويعتمده في النقول والأجوبة عن المسائل الغامضة والفروع المشكلة وله كتابات وتحقيقات ولم يزل مشتغلًا بشأنه حتى تعلل أيامًا بدار بميدان القطن مطلة على الخليج وتوفي يوم السبت سادس عشرين جمادى الأولى من السنة. ومات الجناب المكرم والمشير المفخم الوزير الكبير والدستور الشهير أحمد باشا الشهير بالجزار وأصله من بلاد البشناق وخدم عند المرحوم علي باشا حكيم أوغلي وعمل عنده شفاسيًا وحضر صحبته إلى مصر في ولايته الثانية سنة إحدى وسبعين ومائة وألف فتشوقت نفسه إلى الحج واستأذن مخدومه فأذن له في ذلك وأوصى عليه أمير الحاج إذ ذاك صالح بك القاسمي فأخذه صحبته وأكرمه وواساه رعاية لخاطر علي باشا ورجع معه إلى مصر فوجد مخدومه قد انفصل من ولاية مصر وسافر إلى الديار الرومية ووصل نعيه بعد أربعة أشهر من ذهابه فاستمر المترجم بمصر وتزيا بزي المصريين وخدم عند عبد الله بك تابع علي بك بلوط قبان وتعلم الفروسية على طريق الأجناد المصرية فأرسل علي بك عبد الله بك بتجريدة إلى عرب البحيرة فقتلوه فرجع المترجم مع باقي أصحابه إلى مصر فقلده علي بك كشوفية البحيرة وقال له ارجع إلى الذين قتلوا أستاذك وخلص ثأره فذهب إليهم وخادعهم واحتال عليهم وجمعهم في مكان وقتلهم وهم نيف وسبعون كبيرًا وبذلك سمي بالجزار ورجع منصورًا وأحبه علي بك لنجابته وشجاعته وتنقل عنده في الخدم والمناصب والأمريات ثم قلده الصنجقية وصار من جملة أمرائه ولما خرج علي بك منفيًا خرج صحبته ورافقه في الغربة والتنقلات والوقائع ولم يزل حتى رجع علي بك وصحبته صالح بك من الجهة القبلية وقتل خشداشينه وغيرهم ثم عزم على غدر صالح بك وأسر بذلك إلى خاصته ومنهم المترجم فلم يسهل به ذلك وتذكر ما بينه وبين صالح بك من المعروف السابق فأسر به إليه وحذره فلما اختلى صالح بك بعلي بك عرض له بذلك فحلف له علي بك أنه باق على مصافاته وكذب المخبر إلى أن كان ما كان من قتلهم وغدرهم لصالح بك كما تقدم وإحجام المترجم وتأخره عن مشاركته لهم في دمه ومناقشتهم له بعد الانفصال فتجسم له الأمر فتنكر وخرج هاربًا من مصر في صورة شخص جزائرلي وتفقده علي بك وأحاط بداره وكان يسكن ببيت شكر فره بالقرب من جامع أزبك اليوسفي فلم يجدوه وسار المذكور إلى سكندرية وسافر إلى الروم ثم رجع إلى البحيرة وأقام بعرب الهنادي وتزوج هناك ولما أرسل علي بك التجاريد إلى ابن حبيب والهنادي حارب المترجم معهم ثم سار إلى بلاد الشام فاستمر هناك في هجاج وتنقلات ومحاربات واشترى مماليك واجتمع لديه عصبة واشتهر أمره في تلك النواحي ولم يزل على ذلك إلى أن مات الظاهر عمر في سنة تسع وثمانين ومائة وألف ووصل حسن باشا الجزائرلي إلى عكا فطلب من يكون كفؤًا للإقامة بحضنها فذكروا له المترجم فاستدعاه وقلده الوزارة وأعكاه الأطواخ والبيرق وأقام بحصن عكا وعمر أسوارها وقلاعها وأنشأ بها البستان والمسجد واتخذ له جندًا كثيفًا واستكثر من شراء المماليك وآغار على تلك النواحي وحارب جبل الدروز مرارًا وغنم منهم أموالًا عظيمة ودخلوا في طاعته وضرب عليهم وعلى غيرهم الضرائب وجبيت إليه الأموال من كل ناحية حتى ملأ الخزائن وكنز الكنوز وصار يصانع أهل الدولة ورجال السلطنة ويتابع إرسال الهدايا والأموال إليهم وتقلدوا ولاية بلاد الشام وولى على البلاد نوابًا وحكامًا من طرفه وطلع بالحج الشامي مرارًا وأخاف النواحي وعاقب على الذنب الصغير بالقتل والحبس والتمثيل وقطع الآناف والآذان والأطراف ولم يغفر زله عالم لعلمه أو ذي جاه لوجاهته وسلب النعم عن كثير جدًا من ذوي النعم واستأصل أموالهم ومات في محبسه ما لا يحصى من الأعيان والعلماء وغيرهم ومنهم من أطال حبسه سنين حتى مات واتفق أنه استراب من بعض سراريه ومماليكه فقتل من قويت فيه الشبهة وحرقهم ونفى الباقي الجميع ذكورًا وإناثًا بعد أن مثل بهم وقطع آنافهم وأخرجهم من عكا وطردهم وسخط على من أواهم أو تاواهم ولو في أقصى البلاد وحضر الكثير منهم إلى مصر وخدموا عند الأمراء وانضوى نحو العشرين منهم وخدموا عند علي بك كتخدا الجاويشية فلما بلغ المترجم ذلك تغير خاطره من طرفه وقطع حبل وداده بعد أن كان يراسله ويواصله دون غيره من أمراء مصر وكان ذلك سبب استيحاشه منه إلى أن مات ولما فعل بهم ذلك تعصب عليه مملوكاه سليم باشا الكبير وسليمان باشا الصغير وهو الموجود الآن وانضم إليهما المتآمرون من خشداشينهما وغيرهم غيظًا على ما فعله بخشداشينهم وعلمهم بوحدته وانفراده وحاصروه بعكا ولم يكن معه إلا القليل من العساكر البرانيين والفعلة والصناع الذين يستعملهم في البناء فألبسهم طراطير مثل الدلاة وأصعدهم إلى الأسوار مع الرماة والطبجية ورآهم المخالفون عليه فتعجبوا وقالوا أنه يستخدم الجن وكبس عليهم في غفلة من الليل وحاربهم وظهر عليهم وأذعنوا لطاعته وتفرق عنهم المساعدون لهم ثم تتبعهم واقتص منهم وكاد البلاد وقهر العباد ونصبت الدولة فخاخًا لصيده مرارًا فلم يتمكنوا من ذلك فلم يسعهم بعد ذلك إلا مسالمته ومسايرته وثبت قدمه وطار صيته في جميع الممالك الإسلامية والقرانات الإفرنجية والثغور واشتهر ذكره وراسله ملوك النواحي وراسلهم وهادوه وهابوه وبنى عدة صهاريج وملأها بالزيت والسمن والعسل والسيرج والأرز وأنواع الغلة وزرع ببستانه سائر أصناف الفواكه والنخيل والأعناب الكثيرة وجدد دولته ثانيًا واشترى مماليك وجواري بدلًا عن الذين أبادهم وبالجملة فكان من غرائب الدهر وأخباره لا يفي القلم بتسطيرها ولا يسعف الفكر بتذكارها ولو جمع بعضها جاءت مجلدات ولو لم يكن له من المناقب إلا استظهاره على الفرنساوية وثباته في محاربتهم له أكثر من شهرين ولم يغفل فيها لحظة لكفاه وكان يقول أن الفرنساوية لو اجتهدوا في إزالة جبل عظيم لأزالوا في أسرع وقت وقد تقدم بعض خبر ذلك في محله وكان يقول أنا المنتظر وأنا أحمد المذكور في الجفور الذي يظهر بين القصرين واستخرج له كثير من الذين يدعون معرفة الاستخراج عبارات وتأويلات ورموزًا وإشارات ويقولون المراد بالقصرين مكانان جهة الشام أو المحملان أو نحو ذلك من الوساوس ولم يزل حتى توفي في آخر هذا العام على فراشه وكن سليمان باشا تابعه غائبًا بالحجاز في إمارة الحج الشامي فلما علم أنه مفارق الدنيا أحضر إسماعيل باشا والي مرعش وكان في محبسه يتوقع منه المكروه في كل وقت فأقامه وكيلًا عنه إلى حضور سليمان باشا من الحج وأعطاه الدفاتر وعرفه بعلوفة العسكر وأوصاه فلما انقضى نحبه ودفنوه صرف النفقة واتفق مع طه الكردي وصالح الدولة وتحصن بعكا وحضر سليمان باشا فامتنعا عليه ولم يمكنه الدخول إليها فاستمر إسماعيل باشا إلى أن أخرجه أتباع المترجم بحيلة وملكوا سليمان باشا بعد أمور لم تتحقق كيفيتها وذلك ومات عين الأعيان ونادرة الزمان شاه بندر التجار والمرتقي بهمته إلى سنام الفخار النبيه النجيب والحسيب النسيب السيد أحمد بن أحمد الشهير بالمحروقي الحريري كان والده حريريًا بسوق العنبريين بمصر وكان رجلًا صالحًا منور الشيبة معروفًا بصدق اللهجة والديانة والأمانة بين أقرانه وولد له المترجم فكان يدعو له كثيرًا في صلاته وسائر تحركاته فلما ترعرع خالط الناس وكتب وحسب وكان على غاية من الحذق والنباهة وأخذ وأعطى وباع واشترى وشارك وتداخل مع التجار وحاسب على الألوف واتحد بالسيد أحمد بن عبد السلام وسافر معه إلى الحجاز وأحبه وامتزج به امتزاجًا كليًا بحيث صارا كالتوأمين أو روح حلت بدنين ومات عمدة التجار العرايشي وهو بالحجاز وهو أخو السيد أحمد بن عبد السلام في تلك السنة فأحرز مخلفاته وأمواله ودفاتر شركائه فتقيد المترجم بمحاسبة التجار والشركاء والوكلاء ومحاققتهم فوفر عليه لكوكا من الأموال واستأنف الشركات والمعاوضات وعد ذلك من سعادة مقدم المترجم ومرافقته له ورجع صحبته إلى مصر وزادت محبته له ورغبته فيه وكان لابن عبد السلام شهرة ووصلة بأكابر الأمراء كأبيه وخصوصًا مراد بك فيقضي له ولأمرائه لوازمهم اللازمة لهم ولأتباعهم واحتياجاتهم من التفاضيل والأقمشة الهندية وغيرها وينوب عنه المترجم في غالب أوقاته وحروكاته ولشدة امتزاج الطبيعة بينهما صار يحاكيه في ألفاظه ولغته وجميع اصطلاحاته في الحركات والسكنات والخطرات واشتهر ذكره به عند التجار والأعيان والأمراء واتحدا بمحمد آغا البارودي كتخدا مراد بك اتحادًا زائدًا وأتحفاه بالجرايا وخصصاه بالمزايا فراج به عند مخدومه شأنهما وارتفع بالزيادة قدرهما ولما تأمر إسماعيل بك واستوزر أيضًا البارودي استمر حالهما كذلك بل وأكثر إلى أن حصل الطاعون ومات به السيد أحمد بن عبد السلام في شعبان فاستقر المترجم في مظهره ومنصبه شاه بندر التجار بواسطة البارودي أيضًا وسعايته وسعادة طالعه وسكن داره العظيمة التي عمرها بجوار الفحامين محل دكة الحسبة القديم وتزوج بزوجاته واستولى على حواصله ومخازنه واستقل بها من غير شريك ولا وارث وعند ذلك زادت شهرته وعظم شأنه ووجاهته ونفذت كلمته على أقرانه ولم يزل طالعه يسمو وسعده يزيد وينمو وعاد مراد بك والأمراء المصريون بعد موت إسماعيل بك وانقلاب دولته إلى إمارة مصر فاختص بخدمته وقضاء سائر أشغاله وكذلك إبراهيم بك وباقي الأمراء وقدم لهم الهدايا والظرائف وواسى الجميع أعلاهم وأدونهم بحسن الصنع حتى جذب إليه قلوب الجميع ونافس الرجال وانعطفت إليه الآمال وعامل تجار النواحي والأمصار من سائر الجهات والأقطار واشتهر ذكره بالأراضي الحجازية وكذا بالبلاد الشامية والرومية واعتمدوه وكاتبوه واسلوه وأودعوه الودائع وأصناف التجارات والبضائع وزوج ولده السيد محمد وعلم له مهابًا عظيمًا افتخر فيه إلى الغاية ودعا الأمراء والأكابر والأعيان وأرسل إليهم إبراهيم بك ومراد بك الهدايا العظيمة المحملة على الجمال الكثيرة وكذلك باقي الأمراء ومعها الأجراس التي لها رنة تسمع من البعد ويقدمها جمل عليه طبل نقارية وذلك خلاف هدايا التجار وعظماء الناس والنصارى الأروام والأقباط الكتبة وتجار الإفرنج والأتراك والشوام والمغاربة وغيرهم وخلع الخلع الكثيرة وأعطى البقشيش والإنعامات والكساوى ولا يشغله أمر عن أمر آخر يمضيه أو غرض ينفذه ويقضيه كما قيل أخو عزمات لا يريد على الذي يهم به من مفظع الأمر صاحبًا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه وفكب عن ذكر العواقب جانبًا. وحج في سنة اثنتي عشرة ومائتين وألف وخرج في تجمل زائد وجمال كثيرة وتختروانات ومواهي ومسطحات وفراشين وخدم وهجن وبغال وخيول وكان يوم خروجه يومًا مشهودًا اجتمع الكثير من العامة والنساء وجلسوا بالطريق للفرجة عليه ومن خرج معه لتشييعه ووداعه من الأعيان التجار الراكبين والراجلين معه منهم وبأيديهم البنادق والأسلحة وغير ذلك وبعث بالبضائع والذخائر والقومانية والأحمال الثقيلة على طريق البحر لمرساة الينبع وجدة وعند رجوع الركب وصل الفرنساوية إلى بر مصر ووصلهم الخبر بذلك وأرسل إبراهيم بك إلى صالح بك أمير الحاج يطلبه مع الحجاج إلى بلبيس كما تقدم وذهب بصحبتهم المترجم وجرى عليه ما ذكر من نهب العرب متاعه وحموله وكان شيئًا كثيرًا حتى ما كان عليه من الثياب وانحصر بطريق القرين فلم يجد عند ذلك بدًا من مواجهة الفرنساوية فذهب إلى ساري عسكر بونابارته وقابله فرحب به وأكرمه ولامه على فراره وركونه للمماليك فاعتذر إليه بجهل الحال فقبل عذره واجتهد له في تحصيل المنهوبات وأرسل في طلب المتعدين واستخلص ما أمكن استخلاصه له ولغيره وأرسلهم إلى مصر وأصحب معهم عدة من العساكر لخفارتهم ويقدمهم طبلهم وهم مشاة بالأسلحة بين أيديهم حتى أدخلوهم إلى بيوتهم ولما رجع ساري عسكر إلى مصر تردد عليه وأحله محل القبول وارتاح إليه في لوازمه وتصدى للأمور وقضايا التجار وصار مرعي الجانب عنده ويقبل شفاعاته ويفصل القوانين بين يديه ويدي أكابرهم ولما رتبوا الديوان تعين من الرؤساء فيه وكاتبوا التجار أهل الحجاز وشريف مكة بواسطته واستمر على ذلك حتى سافر بونابارته ووصل بعد ذلك عرضي العثمانية والأمراء المصرية فخرج فيمن خرج لملاقاتهم وحصل بعد ذلك ما حصل من نقض الصلح والحروب واجتهد المترجم في أيام الحرب وساعد وتصدى بكل همته وصرف أموالًا جمة في المهمات والمؤن إلى أن كان ما كان من ظهور الفرنساوية وخروج المحاربين من مصر ورجوعهم فلم يسعه إلا الخروج معهم والجلاء عن مصر فنهب الفرنساوية داره وما يتعلق به ولما استقر يوسف باشا الوزير جهة الشام آنسه المترجم وعاضده واجتهد في حوائجه واقترض الأموال وكاتب التجار وبذل همته وساعده بما لا يدخل تحت طوق البشر ويراسل خواصه بمصر سرًا فيطالعونه بالأخبار والأسرار إلى أن حصل العثمانيون بمصر فصار المترجم هو المشار إليه في الدولة والتزم بالإقطاعات والبلاد وحضر الوزير إلى داره وقدم إليه التقادم والهدايا وباشر الأمور العظيمة والقضايا الجسيمة وما يتعلق بالدول والدواوين والمهمات السلطانية وازدحم الناس ببابه وكثرت عليه الأتباع والأعوان والقواسة والفراشون وعساكر رومية ومترجمون وكلارجية ووكلاء وحضرت مشايخ البلاد والفلاحون الكثيرة بالهدايا والتقادم والأغنام والجمال والخيول وضارقت داره بهم فاتخذ دورًا بجواره وأنزل بها الوافدين وجعل بها مضايف وحبوسًا وغير ذلك. ولما قصد يوسف باشا الوزير السفر من مصر وكله على تعلقاته وخصوصياته وحضر محمد باشا خسرو فاختص به أيضًا اختصاصًا كليًا ويلم إليه المقاليد الكلية والجزئية وجعله أمير الضربخانه وزادت صولته وشهرته وطار صيته واتسعت دائرته وصار بمنزلة شيخ البلد بل أعظم ونفدت أوامره في الإقليم المصري والرومي والحجازي والشامي ودرك من العز والجاه والعظمة ما لم يتفق لأمثاله من أولاد البلد وكان ديوان بيته أعظم الدواوين بمصر وتغرب وجهاء الناس لخدمته والوصول لسدته ووهب وأعطى وراعى جانب كل من انتمى إليه وأغدق عليه وكان يرسل الكساوى في رمضان للأعيان والفقهاء والتجار وفيها الشالات الكشميري ويهب المواهب وينعم الإنعامات ويهادي أحبابه ويسعفهم ويواسيهم في المهمات وعمل عدة أعراس وولائم وزاره محمد باشا المذكور في داره مرتين أو ثلاثة باستدعاء وقدم له التقادم والهدايا والتحايف والرخوت المثمنة والخيول والتعابي من الأقمشة الهندية والمقصبات ولما ثارت العسكر على محمد باشا وخرج فارًا كان بصحبته في ذلك الوقت فركب أيضًا يريد الفرار معه واختلفت بينهما الطرق فصادفته طائفة من العسكر فقبضوا عليه وعروا ثيابه وثياب ولده ومن معه وأخذوا منه جوهرًا كثيرًا ونقودًا ومتعًا فلحقه عمر بك الأرنؤدي الساكن ببولاق وأدركه وخلصه من أيديهم وأخذه إلى داره وحماه وقابل به محمد علي وغيره وذهب إلى داره واستقر بها إلى أن انقضت الفتنة وظهر طاهر باشا فساس أمره معه حتى قتل وحضر الأمراء المصريون فتداخل معهم وقدم لهم وهاداهم واتحد بهم وبعثمان بك البرديسي فأبقوه على حالته ونجز مطلوبات الجميع ولم يتضعضع للمزعجات ولم يتقهقر من المفزعات حتى أنهم لما أرادوا تقليد الستة عشر صنجقًا في يوم أحضره البرديسي تلك الليلة وأخبره بما اتفقوا عليه ووجده مشغول البال متحيرًا في ملزوماتهم فهون عليه الأمر وسهله وقضى له جميع المطلوبات واللوازم للستة عشر أميرًا في تلك الليلة وما أصبح النهار إلا وجميع المطلوبات من خيول ورخوت وفراوى وكساوى ومزركشات وذهب وفضة برسم الإنعامات والبقاشيش ومصروف الجيب حاضر لديه بين يديه حتى تعجب هو والحاضرون من ذلك وقال له مثلك من يخدم الملوك وأعطاه في ذلك اليوم فارسكور زيادة عما بيده ولما ثارت العسكر على الأمراء المصريين وأخرجوهم من مصر وأحضروا حمد باشا خورشيد من سكندرية وقلدوه ولاية مصر وكان كبعض الأغوات مختصر الحال هيا له رقم الوزارة والرخوت والخلع واللوازم في أسرع وقت وأقرب مدة ولم يزل شأنه في الترفع والصعود وطالعه مقارنًا للسعود وحاله مشهور وذكر منشور حتى فاجأته المنية وحالت بينه وبين الأمنية وذلك أنه لما دعا الباشا في يوم الثلاثاء سابع عشر شهر شعبان نزل إلى داره وتغدى عنده وأقام نحو ساعتين ثم ركب وطلع إلى القلعة فأرسل في أثره هدية جليلة صحبة ولده والسيد أحمد الملا ترجمانه وفي بقج قماش هندي وتفاصيل ومصوغات مجوهرة وشمعدانات فضة وتحايف وخيول مرختة وبدونها برسمه ورسم كبار أتباعه ومضى على ذلك خمسة أيام فلما كان ليلة الأحد ثاني عشرين شعبان المذكور جلس حصة من الليل مع أصحابه يحادثهم ويملي الكتبة والمراسلات والحسابات فأخذته رعدة وقال إني أجد بردًا فدثروه ساعة ثم أرادوا إيقاظه إلى حريمه فحركوه فوجدوه خالصًا قد فارق الدنيا من تلك الساعة التي دثروه فيها فكتلوا أمره حتى ركب ولده السيد محمد إلى الباشا في طلوع النهار وأخبره ثم رجع إلى داره وحضر ديوان أفندي والقاضي وختموا على خزانته وحواصله وأشهروا موته وجهزوه وكفنوه وصلوا عليه بالأزهر في مشهد حافل ثم رجعوا به إلى زاوية العربي تجاه داره ودفنوه مع السيد أحمد بن عبد السلام وانقضى أمره ثم أن الباشا ألبس ولده محمد فروة وقفطانًا على الضربخانه وما كان عليه والده من خدمة الدولة والالتزام ونزل من القلعة صحبة القاضي ثم ذهب إلى داره بارك الله فيه وأعانه على وقته. ومات الأمير المبجل علي آغا يحيى وأصله مملوك يحيى كاشف تاع أحمد بك السكري الذي كان كتخدا عند عثمان بك الفقاري الكبير المتقدم ذكرهما ولما ظهر علي بك وأرسل محمد بك ومن معه إلى جهة قبلي بعد قتل صالح بك كان الأمير يحيى في جملة الأمراء الذين كانوا بأسيوط ووقع لهم ما تقدم ذكره من الهزيمة وتشتتوا في البلاد فذهب الأمير يحيى إلى إسلامبول وصحبته مملوكه المترجم وأقام هناك إلى أن مات فحضر الأمير علي تابعه إلى مصر في أيام محمد بك وتزوج ببنت أستاذه وسكن بحارة السبع قاعات واشتهر بها وعمل كتخدا عند سليمان آغا الوالي إلى أن تقلد سليمان آغا المذكور آغاوية مستحفظان فصار المترجم مقبولًا عنده ويتوسط للناس عنده في القضايا والدعاوي واشتهر ذكره من حينئذ وارتاح الناس عليه في غالب المقتضيات وباشر فصل الحكومات بنفسه وكان قليل الطمع لين الجانب ولما تقلد مخدومه الصنجقية بقي معه على حالته في القبول والكتخدائية وزادت شهرته وتداخل في الأمور الجسيمة عند الأمراء ولما حضر حسن باشا وخرج مخدومه من مصر مع من خرج وظهر شأن إسماعيل بك والعلويين استوزره حسن بك الجداوي وعظم أمره أيضًا في أيامه مع مباشرته لوازم مخدومه الأول وقضاء أشغاله سرًا واشترى دار مصطفى آغا الجراكسة التي بجوار العربي بالقرب من الفحامين وانتقل من السبع قاعات وسكن بها وسافر مرارًا إلى الجهة القبلية سفيرًا بين الأمراء البحرية والقبلية في المراسلات والمصالحات وكذلك في بعض المقتضيات بالبلاد البحرية ولم يزل وافر الحرمة حتى كانت دولة العثمانيين ونما أمر السيد أحمد المحروقي فانضوى إليه لقرب داره منه فقيده ببعض الخدم وجبي الأموال من البلاد الجسيمة فأرسله قبل موته إلى جهة بشبيش فمرض بها فلما تأمر حسن بك أخو طاهر باشا على التجريدة الموجهة إلى ناحية قبلي طلبوا رجلًا من المصريين يكون رئيسًا عاقلًا يكون كتخدا فأشاروا على المترجم فطلبه الباشا من السيد أحمد المحروقي فأرسل إليه بالحضور فوصل في اليوم الذي توفي فيه المحروقي فأقام أيامًا حتى قضى أشغاله وسافر وهو متوعك وتوفي بسملوط في ثالث القعدة وحضر برمته في ليلة الجمعة ثامنه وخجوا بجنازته من بيته وصلوا عليه بالأزهر ودفنوه بالقرافة رحمه الله تعالى وغفر له. فكان ابتداء المحرم يوم الاثنين ولما نزل الدلاة جهة البساتين وتلك النواحي فأكلوا زروعات الناس ونهبوا دورًا بدير الطين وطلبوا علوفات زائدة رتب لهم الباشا الجرايات والعليق والجامكية وقدرها ستمائة كيس في كل شهر. وفي ثامنه سافر أناس كثيرة لزيارة مولد سيدي أحمد البدوي المعتاد وسافر أيضًا الشيخ الشرقاوي وحضر هناك كاشف الغربية وحصل منه قبائح كثيرة وقبض على خلائق كثيرة وبلصهم وحبسهم وخوزق أناسًا كثيرة من غير ذنب ولا يقبل شفاعة أحد في شيء. وفيه أشيع قدوم محمد علي وحسن باشا إلى مصر وذلك أنهما لما سمعا بوصول طائفة الدلاة وأن أحمد باشا أرسل إليهم وطلبهم ليتعاضد بهم ويقوي بهم ساعده على الأرنؤدية عزموا على الرجوع إلى مصر ليتلافوا أمرهم قبل استفحال الأمر. وفي يوم الخميس حادي عشره طلب الباشا المشايخ وعمر أفندي النقيب والوجا قليلة وأرباب الديوان فلما اجتمعوا قال لهم أن محمد علي وحسن باشا راجعان من قبلي من غير إذن وطالبان شرًا فإما أن يرجعا من حيث أتيا ويقاتلا المماليك وإما أن يذهبا إلى بلادهما أو أعطيهما ولا يات ومناصب في غير أراضي مصر ومعي أمر من السلطان ووكيل مفوض ودستور مكرم أعزل من أشاء وأولي من أشاء وأعطي من أشاء وأمنع من أشاء ثم أخرج من جيبه ورقة صغيرة في كيس حرير أخضر وأخبرهم أنها بخط السلطان بما ذكر فأنتم تكونون معي وتقيمون عندي صحبة كبار الوجاقلية فقالوا له أن الشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ المهدي غائبون عن مصر فقال نرسل لهم بالحضور فكتبوا لهم أوراقًا من الباشا وأرسلوها إليهم مع السعاة يستعجلونهم للحضور ثم اتفقوا على أن يبيت عنده بالقلعة في كل ليلة اثنان من المتعممين واثنان من الجاقلية وأعدوا لهم مكانًا بالضربخانه وأمر بأن يذهب الدلاة والعسكر الباقية إلى ناحية طرا والجيزة وأخذوا مدافه وجبخانه ووصل محمد علي وحسن باشا إلى ناحية طرا ومعهم عساكرهم فلم يجسر الدلاتية على ممانعتهم وكاد لهم محمد علي مكايد منها أنه أرسل إليهم يقول إنما جئنا في طلب العلائف ولسنا مخالفين ولا معاندين فقال الدلاتية لبعضهم إذا كان الأمر كذلك فلا وجه للتعرض لهم وأخلوا من طريقهم ودخل الكثير من طوائف عساكرهم ورجع الدلاتية إلى أماكنهم بدير الطين وقصر العيني والآثار ونزل كتخدا الباشا وعمر بك الأرنؤدي فتكلما مع الدلاتية فقالوا أن القوم لم يكن عندهم خلاف ولا تعدو إذا كنتم تمنعون وتحاربون من يطلب حقه فكذلك تفعلون معنا إذا خدمناكم زمنًا ثم طلبنا علائفنا فرجع الكتخدا وعمر بك الأرنؤدي وتتابع دخول أولئك في كل يوم طائفة بعد أخرى وسكنوا الدور والبيوت. وفي يوم الأربعاء ذهب إليهم سعيد آغا وقابجي باشا الأسودان وسلما على محمد علي وحسن باشا ثم رجعا. وفي يوم الجمعة تاسع عشره دخل محمد علي بعد العصر وهب إلى بيته بالأزبكية ودخل حسن باشا في صبحها ودخلت طوائفهم وأخذوا الحمير والبغال وجمال السقائين لينقلوا عليها متاعهم ودخلوا البيوت وأزعجوا السكان وأخرجوهم من مساكنهم وفتحوا البيوت المسدودة وكثرت أخلاطهم بالأسواق ومنع الباشا المشايخ والوجاقلية من الذهاب إلى محمد علي والسلام عليه واستمر الأمر على القلقلة واللقلقة والتوحش وأخذ محمد علي في التدابير على أحمد باشا وخلعه.
|